بقلم : نبيل ياسين - لكن المشكلة ما تزال قائمة
وتتعلق بأزمة ثقافية تخص مفهوم الدولة. إذا كانت الدولة ، كما يفهمها
البعض،هي سلطة الجيش والشرطة وقوانين الطوارئ وقانون 4 إرهاب فهذه ليست
دولة. فالمؤسسات الدفاعية والأمنية هي أدوات الدولة بيد الحكومة ويجب أن
يكون استخدامها قانونيا. فالدولة ليست ملك الحكومة وإنما ملك الإرادة
العامة أي مجتمع الدولة.
حين تغيب الدولة يطل الفساد. الفساد هو البديل الطبيعي لغياب الدولة. فالحكومات، في معظم بلاد العالم، تنحو نحو الفساد، ولكن الدولة تجر زمام الحكومات بالقوانين وسلطة الرأي العام والقضاء المستقل ، والشرف الاجتماعي عند الناس الذين يتورعون، أخلاقيا، عن المساهمة في الفساد ويشجبونه ويتظاهرون ضده ويحولون وسائل الإعلام إلى أداة تعبير حقيقية وفاعلة ضد الفساد. حين تغيب الدولة تزوّر السلطة السياسية شهادات أعضائها وهو عمل بسيط جدا اقل انحطاطا أخلاقيا من احتقار حقوق المواطنين وهيبة الدولة وقدسية المهمات والمسؤوليات التي يعهد بها المجتمع للحكومات تحت سلطة الدولة. أما إذا كانت سلطة الحكومة فوق سلطة الدولة فهذا يعني أن سلطة السياسة فوق سلطة القانون. وهذا يعني بدوره أن المواطن غائب لان القانون غائب.
إن العقد الاجتماعي ليس آليات سياسية بقدر ما هو آليات حقوقية
وقانونية.وبدون النفوذ الحقوقي، الثقافي والإجرائي والمشاركة المدنية
الواسعة والفاعلة لا نصل إلى بناء الدولة وموضوعيتها. فالدولة حالة واقعية
وموضوعية.لكن من يفكر بالدولة في وقت تتضخم فيه السلطة وتتشعب مثل إخطبوط.
خراج نفط: من يملك الاثنين؟
عانيت كثيرا كما أعاني الآن من وحدتي وعدم نجاحي في العمل مع المعارضة العراقية ومع قوى النظام الجديد. السبب واضح وحقيقي يقوله السياسيون من احمد ألجلبي إلى أياد علاوي مرورا بمن هم معهم أو ضدهم. إنني فردي ومثالي لا اقبل الآخرين. وهذا صحيح، ليس لان الآخرين أسوأ مني ولكنهم بلا مشروع وطني وكل مشاريعهم فردية تخص مصالحهم. فالذي يؤسس جريدة يضع أساليب عمل تخدم تسويقه وظهوره بمظهر القائد ولكن بدون مشروع وطني عام يظهره بمظهر القائد. والذي ينشئ مدرسة تعليمية يضع قوانينها هو ويحتقر العلم ويمارس منح الشهادات التقديرية لخدمة مصالحه الخاصة، وتنتفي المعايير لان المشروع فردي والصرف عليه فردي. أي أن المال يحدد معايير العلم والصحافة والسياسة والتحالفات الإقليمية والدولية ومفهوم السلطة. وبما أن الدولة مشروع عام ووطني فانه يتناقض مع طموحات السياسيين الساعين لتكريس مصالحهم الفردية لان الدولة لاتوفز المصالح الفردية وإنما المصالح العامة. ولذلك يبدو الجهاز الإداري هو سلطة الحكومة وليس أدوات الدولة لتلبية الحاجات المتزايدة للمواطنين. هكذا تطل الرشوة برأسها لان الجهاز الإداري ضد المواطن كسلطة للحكم وليس كوسيلة للدولة لإرضاء حاجات مواطنيها. هذه هي فلسفة الدولة. واذا بدت مشاريع الحكم شخصية وفئوية ودينية ومذهبية وعشائرية وعائلية ومناطقية فان مقولة علي( الناس عيال على الخراج) والتي تتشابه مع أفكار ادم سميت في ثروات الأمم، ستصبح مثالية في نظر الأفكار الساذجة التي تستحوذ على الثروة ، وفي نفس الوقت الأفكار الساذجة التي تعتقد أن توزيع الثروة لا شأن له بالدولة. الحكومات لا توزع الثروات وإنما تديرها. ولكن لدينا حكومات تعتبر الخراج فيئها الخاص وتوزعه وفق الولاءات. أي كما كان معاوية، الذي نعترض عليه لسيطرته على الفيء، يفعل.
الدولة هي المال العام لجميع المواطنين. ولذلك يعتبر روسو إن السيادة هي الإرادة العامة. نعم. فالإرادة العامة هي من جعلت عليا يسعى إلى تحقيقها عبر توسيع مساحة شغل الرأي العام بالنقد والمحاججة والرأي المختلف كما جعلته يسعى إلى تحويل الخراج إلى نفط ذلك الزمان فينشئ أخلاقية المسؤولية الاجتماعية للدولة تجاه مواطنيها خاصة من ذوي الدخل المحدود أو الذين لا دخل لهم. ويحول السلطة السياسية إلى فرع من فروع الدولة وليس الدولة .
ما نحن بحاجة إليه هو تفكيك وعزل فكر السلطة عن فكر الدولة. ففكر السلطة غيب فكر الدولة وجعل الفرد فوق النظام القانوني والحقوقي للدولة.
قرأت جميع التعليقات. وما جاءني بالبريد الشخصي رددت عليه.وأوافق الجميع، الذين اختلفوا معي والذين أيدوني والذين وقفوا موقفا وسطا. ومصدر توافقي هو أن التعددية ليست توحيد المجتمع في قطيع وتوحيد السلطة في حزب وإخضاع الدولة لفرد.نحن في صراع حقيقي. فالذين يختلفون ويصعدون الأزمات السياسية ليسوا على حق. كل أطراف الصراع التي تخلق الأزمة ليست على حق. لان جميع صراعاتها تسعى إلى مصادرة حقوق المواطنين وجعل الحكم ملكية حزبية أو ملكية عائلية أو ملكية قوة عسكرية وأمنية. وجعل الدستور جدول ضرب. ففي جدول الضرب تستطيع أن تقول 6 في 4 يساوي 24 ولكنك يمكنك أن تختار 3 في 8 لتصل إلى نفس الجميع ولكن الاختلاف ليس على النتيجة وإنما على اختيار الأسلوب.إذ يختار شخص ثالث 2 في 12 ليصل إلى نفس النتيجة، وفي الأخير يستخدم الجميع الدستور بطريقة مختلفة ليصلوا إلى النتيجة نفسها وهي أن الدستور يخرق من قبل الجميع.الخدعة واحدة وهي أن الدستور معلق على الحائط كما كان جدول الضرب معلقا في صفوف المدارس الابتدائية قديما لحفظه. وبينما يخرقه سين في جدول 4 في6 يخرقه الأخر في جدول 3 في 8 لكن وظيفة الخرق هي مصالح حزبية وفردية ومنافع فئوية وليس دولة العدالة وسيادة القانون وحقوق الإنسان والمواطنة.
تبدأ سلطة الفرد وسلطة العادة وسلطة العرف وسلطة السطوة وسلطة التملك (ليس سلطة الملكية الخاصة) وسلطة التعامل من أعلى الهرم إلى قمته لتصل إلى بائع الخضار الذي يمنعك من اختيار الخضار بيدك ويجبرك على اخذ ما يعطيك إياه هو لتأكله. فإذا أنت أمام سلطة بائع الخضار الذي يستمد سلطته من تفوق امتلاكه حاجتك دون أي اعتبار لمالك الذي تشتري فيه طعامك. هنا نكتشف غياب سلطة المواطن وغياب سلطة الحق وغياب سلطة الاختيار. فمادة الخضار لم تفرز وفق اختيارك كمشتر كما هو الحال في دول عديدة من العالم يكون فيها الحق للزبون بالاختيار. فالبائع يشتري الطماطم الجيد والرديء والأصناف المتوسطة بين الجيد والرديء في سلة واحدة ويجبرك على اخذ الجيد والردئ وما بين الجيد والردئ بسعر واحد.انك تتخلى عن سلطتك كمشتر لك الحق في أن تختار الجيد ، وعادة الحكومة هي جعلك تحت رحمة الجميع والجميع تحت رحمة الحكومة. لماذا لا تفرز الحكومة عبر القوانين سعر الجيد من سعر الرديء؟ السبب ليس العجز عن ذلك ولكن جعل المواطن(مسكينا) خاضعا لرحمة وجبروت السلطة السياسية. ليس العيب في النظام السياسي وفكر السلطة فحسب وإنما العيب الحقيقي في فكر المواطن الذي يعتقد انه (يجب ) أن يكون تحت رحمة السلطة لكي يأكل ويعيش ويعمل ويتعلم ويتطبب ويمارس إنتاج الأطفال بنفس الأسلوب التسلطي.
أن وعي الفرد هو المسؤول. ولكن هناك من يقول وماذا ذنب الفرد إذا كانت النخبة السياسية والثقافية هي من تزود المواطن بوعي الخضوع للتسلط عبر إشاعة الخوف داخل صفوفها وسعيها الدؤوب لتطبيع عضو سياسي واجتماعي مطيع كامل الولاء دون نقد أو اعتراض أو حقوق؟ وهذا صحيح. فالنخبة السياسية والثقافية هي التي تشيع نظام العبودية المواطنية للسلطة لأنها تعيش على هذا النظام. وبالتالي فان العقد الوحيد ليس عقدا اجتماعيا وإنما عقد سياسي إيديولوجي معصوم أو عقد ديني مقدس تكون فيه الحقوق لطرف واحد غير قابل للنقاش.إن الاستبداد السياسي والديني والإيديولوجي ينفي العقد الاجتماعي فينفي الدولة ويصل إلى نتيجة واحدة هي نفي الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية للمواطن.
أليس هذا ما يحصل في العراق؟ واليس هذا ما تتجنب المرجعية الدينية الجواب عليه لأنه واضح أولا وباين للعيان ، ولأنه يشير إلى محنة علي وورطة عهده لبناء الدولة على عقد أخلاقي وحقوقي سواء كان عقدا دينيا أو عقدا سياسيا دينيا.إن تجنب السيد السيستاني الإجابة على رسالتي ليس ترفعا أو إهمالا كما اعتقد بعض القراء والسياسيين وبعض رجال الدين . انه محنة أخرى من محن الفكر الحقوقي الذي يتورط بدعم أو وضع قوى في مكان ليست قادرة فيه على تحقيق شروط المكان. ومكان الدولة هو ضرورة تعميمها على الجميع كمساواة في الحقوق والانتماء والشعور بالأمن.
كيف سنحل، في حالة غياب القانون قصة المقهى القائمة في مدينة الثورة أو مدينة الصدر ، سمها ما شئت، والتي يحتال فيه شيوخ وسادة مدعون يتعممون ويقبضون أموال الفصل العشائري على هواهم بعيدا عن الدولة لان الدولة غائبة وكأننا في قرية في المجتمعات البدائية.
وكيف سنحل مشكلة جواسيس المدارس، وهي مهنة جديدة يضطر فيها طالب أن يتحول إلى جاسوس للإدارة يتعقب أخبار بائعي المخدرات في الثانويات؟ هل نعتمد على توسيع شغل الجاسوسية في المدارس أو نعالج ظاهرة انتشار المخدرات في المدارس بطرق قانونية وثقافية واجتماعية مرتبطة بطبيعة الحال بحل مشاكل المجتمع كله فلا يمكن منع التدخين مثلا حفاظا على صحة مجموعة تعمل في معمل ينتج غازات سامة تتسرب إلى أنفاسهم. وهي مفارقة تشبه ما نشر عن اعتزام البرلمان مناقشة رفع الحصانة عن قارئ القرآن في البرلمان بتهمة التزوير.وهي مثل مفارقة تلك المقهى في مدينة الثورة ، أو الصدر، الذي يرتاده العاطلون عن العمل وبيدهم أكياسهم التي تحتوي على عدة العمل فهم (مختصون) بترتيبات الفصل العشائري بصورة ملفقة حيث يخلعون ملابس المقهى ويلبسون ملابس شيوخ دين وسادة دين وشيوخ عشائر مقابل ملايين الدنانير إذ يتفقون مع صاحب المشكلة على خمسة ملايين دينار مثلا ويتفقون، باسم الشيوخ والسادة، مع أهل المجني عليه ( وغالبا ما تكون خدعة رمي الجسد إمام عجلات السيارة أثناء توقفها والادعاء بالضرر)على تخفيض الدية إلى مليونين فيقبضون من صاحب المشكلة ثلاثة الملايين المتبقية. وهذه (المهنة) لم تدخل بعد في كتاب غينيس للمهن القياسية.
هل العراق مكان صالح للعيش؟
العراق مكان غير صالح. هذه الحقيقة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تدين الطبقة السياسية والثقافية التي لم تستطع سوى أن تزيد الأمور سوءا. في السبعينات لم يعد العراق مكانا صالحا للعيش سياسيا. الشيوعيون والقوميون والإسلاميون صاروا يتعرضون للاعتقالات والتعذيب والقتل والمطاردة فيما كان حزب البعث يضيق الحياة السياسية ويحولها إلى سجن سياسي كبير طال حتى البعثيين الذين يبدون وجهة نظرهم في التطورات. في الثمانينات لم يعد العراق مكانا صالحا للعيش بسبب الحرب وتحويل العراق إلى ميدان عسكري عبر التجنيد ألقسري والسوق العشوائي والضحايا المكررين والمستمرين في محرقة الحرب التي التهمت مئات الآلاف فضلا عن تحول الاقتصاد العراقي النشيط إلى اقتصاد حرب كارثية، في التسعينات تحول العراق إلى مكان غير صالح للعيش بسبب الحصار الاقتصادي الذي ضاعفه النظام المنهار بإجراءاته وسياسته لتحويل الحصار إلى مجاعة حقيقية وفرصة لاستعباد ملايين العراقيين وتحويلهم إلى فقراء حتى في اعتبارهم البشري. منذ 2003 لا يعرف العراقيون ما الذي يجري في بلادهم. فالأمور تتغير بسرعة مذهلة. من تحرير إلى احتلال. من تغيير إلى عودة إلى الوراء. من انفتاح إلى عوز. من فساد على مستوى محدود إلى فساد مفتوح على المدى الواسع.من تغيير نظام إلى تغيير وضع. من (استقرار) محكوم بقمع السلطة إلى فوضى وتفجيرات وإرهاب وسكون ليلي وجدران كونكريتية عالية وحواجز تفتيش وإخبار الفساد وانتشاره بشكل فظيع يهدد وجود نظام حكم أصلا بغض النظر عن وجود دولة حتى بات المواطن العراقي يسمع أرقاما فلكية عن مصادرات أموال الدولة بشكل نهب وعقود وهمية وغير وهمية ومشاريع تخصص لها مئات الملايين من الدولارات دون أن يلمس العراقي أثرا للمشاريع ، فحتى مشاريع المدن الثقافية ضاعت أموالها إداريا دون أن يشترك المثقفون في تحقيق هذه المشاريع التي تقام باسم ثقافة لا نعرف عنها شيئا.
عدت ذات مرة من العراق إلى لندن قبل أربع سنوات. كانت أول عودة لي للعراق بعد سبعة وعشرين عاما من المنفى. حين عدت إلى لندن كانت بي بي سي الناطقة بالانجليزية قد اتصلت لأكون ضيفا في احد أهم برامجها الذي يبدأ في الساعة السابعة صباحا، أي في وقت ذروة الاستماع الصباحي. سألني المذيع عن شعوري وأنا أعود إلى بلدي بعد نفي استمر سبعة وعشرين عاما. فقال ماذا وجدت؟ قلت له لم أجد شيئا فطفولتي لم تعد هناك وقد تحولت إلى اسمنت وحواجز، وحتى العصافير التي تركتها على الأشجار وسقوف النوافذ لم أرها. إن العراق يبدو وكأنه ليس بلدي بقدر ما يبدو على انه منفاي الثاني. .
خراج نفط: من يملك الاثنين؟
عانيت كثيرا كما أعاني الآن من وحدتي وعدم نجاحي في العمل مع المعارضة العراقية ومع قوى النظام الجديد. السبب واضح وحقيقي يقوله السياسيون من احمد ألجلبي إلى أياد علاوي مرورا بمن هم معهم أو ضدهم. إنني فردي ومثالي لا اقبل الآخرين. وهذا صحيح، ليس لان الآخرين أسوأ مني ولكنهم بلا مشروع وطني وكل مشاريعهم فردية تخص مصالحهم. فالذي يؤسس جريدة يضع أساليب عمل تخدم تسويقه وظهوره بمظهر القائد ولكن بدون مشروع وطني عام يظهره بمظهر القائد. والذي ينشئ مدرسة تعليمية يضع قوانينها هو ويحتقر العلم ويمارس منح الشهادات التقديرية لخدمة مصالحه الخاصة، وتنتفي المعايير لان المشروع فردي والصرف عليه فردي. أي أن المال يحدد معايير العلم والصحافة والسياسة والتحالفات الإقليمية والدولية ومفهوم السلطة. وبما أن الدولة مشروع عام ووطني فانه يتناقض مع طموحات السياسيين الساعين لتكريس مصالحهم الفردية لان الدولة لاتوفز المصالح الفردية وإنما المصالح العامة. ولذلك يبدو الجهاز الإداري هو سلطة الحكومة وليس أدوات الدولة لتلبية الحاجات المتزايدة للمواطنين. هكذا تطل الرشوة برأسها لان الجهاز الإداري ضد المواطن كسلطة للحكم وليس كوسيلة للدولة لإرضاء حاجات مواطنيها. هذه هي فلسفة الدولة. واذا بدت مشاريع الحكم شخصية وفئوية ودينية ومذهبية وعشائرية وعائلية ومناطقية فان مقولة علي( الناس عيال على الخراج) والتي تتشابه مع أفكار ادم سميت في ثروات الأمم، ستصبح مثالية في نظر الأفكار الساذجة التي تستحوذ على الثروة ، وفي نفس الوقت الأفكار الساذجة التي تعتقد أن توزيع الثروة لا شأن له بالدولة. الحكومات لا توزع الثروات وإنما تديرها. ولكن لدينا حكومات تعتبر الخراج فيئها الخاص وتوزعه وفق الولاءات. أي كما كان معاوية، الذي نعترض عليه لسيطرته على الفيء، يفعل.
الدولة هي المال العام لجميع المواطنين. ولذلك يعتبر روسو إن السيادة هي الإرادة العامة. نعم. فالإرادة العامة هي من جعلت عليا يسعى إلى تحقيقها عبر توسيع مساحة شغل الرأي العام بالنقد والمحاججة والرأي المختلف كما جعلته يسعى إلى تحويل الخراج إلى نفط ذلك الزمان فينشئ أخلاقية المسؤولية الاجتماعية للدولة تجاه مواطنيها خاصة من ذوي الدخل المحدود أو الذين لا دخل لهم. ويحول السلطة السياسية إلى فرع من فروع الدولة وليس الدولة .
ما نحن بحاجة إليه هو تفكيك وعزل فكر السلطة عن فكر الدولة. ففكر السلطة غيب فكر الدولة وجعل الفرد فوق النظام القانوني والحقوقي للدولة.
قرأت جميع التعليقات. وما جاءني بالبريد الشخصي رددت عليه.وأوافق الجميع، الذين اختلفوا معي والذين أيدوني والذين وقفوا موقفا وسطا. ومصدر توافقي هو أن التعددية ليست توحيد المجتمع في قطيع وتوحيد السلطة في حزب وإخضاع الدولة لفرد.نحن في صراع حقيقي. فالذين يختلفون ويصعدون الأزمات السياسية ليسوا على حق. كل أطراف الصراع التي تخلق الأزمة ليست على حق. لان جميع صراعاتها تسعى إلى مصادرة حقوق المواطنين وجعل الحكم ملكية حزبية أو ملكية عائلية أو ملكية قوة عسكرية وأمنية. وجعل الدستور جدول ضرب. ففي جدول الضرب تستطيع أن تقول 6 في 4 يساوي 24 ولكنك يمكنك أن تختار 3 في 8 لتصل إلى نفس الجميع ولكن الاختلاف ليس على النتيجة وإنما على اختيار الأسلوب.إذ يختار شخص ثالث 2 في 12 ليصل إلى نفس النتيجة، وفي الأخير يستخدم الجميع الدستور بطريقة مختلفة ليصلوا إلى النتيجة نفسها وهي أن الدستور يخرق من قبل الجميع.الخدعة واحدة وهي أن الدستور معلق على الحائط كما كان جدول الضرب معلقا في صفوف المدارس الابتدائية قديما لحفظه. وبينما يخرقه سين في جدول 4 في6 يخرقه الأخر في جدول 3 في 8 لكن وظيفة الخرق هي مصالح حزبية وفردية ومنافع فئوية وليس دولة العدالة وسيادة القانون وحقوق الإنسان والمواطنة.
تبدأ سلطة الفرد وسلطة العادة وسلطة العرف وسلطة السطوة وسلطة التملك (ليس سلطة الملكية الخاصة) وسلطة التعامل من أعلى الهرم إلى قمته لتصل إلى بائع الخضار الذي يمنعك من اختيار الخضار بيدك ويجبرك على اخذ ما يعطيك إياه هو لتأكله. فإذا أنت أمام سلطة بائع الخضار الذي يستمد سلطته من تفوق امتلاكه حاجتك دون أي اعتبار لمالك الذي تشتري فيه طعامك. هنا نكتشف غياب سلطة المواطن وغياب سلطة الحق وغياب سلطة الاختيار. فمادة الخضار لم تفرز وفق اختيارك كمشتر كما هو الحال في دول عديدة من العالم يكون فيها الحق للزبون بالاختيار. فالبائع يشتري الطماطم الجيد والرديء والأصناف المتوسطة بين الجيد والرديء في سلة واحدة ويجبرك على اخذ الجيد والردئ وما بين الجيد والردئ بسعر واحد.انك تتخلى عن سلطتك كمشتر لك الحق في أن تختار الجيد ، وعادة الحكومة هي جعلك تحت رحمة الجميع والجميع تحت رحمة الحكومة. لماذا لا تفرز الحكومة عبر القوانين سعر الجيد من سعر الرديء؟ السبب ليس العجز عن ذلك ولكن جعل المواطن(مسكينا) خاضعا لرحمة وجبروت السلطة السياسية. ليس العيب في النظام السياسي وفكر السلطة فحسب وإنما العيب الحقيقي في فكر المواطن الذي يعتقد انه (يجب ) أن يكون تحت رحمة السلطة لكي يأكل ويعيش ويعمل ويتعلم ويتطبب ويمارس إنتاج الأطفال بنفس الأسلوب التسلطي.
أن وعي الفرد هو المسؤول. ولكن هناك من يقول وماذا ذنب الفرد إذا كانت النخبة السياسية والثقافية هي من تزود المواطن بوعي الخضوع للتسلط عبر إشاعة الخوف داخل صفوفها وسعيها الدؤوب لتطبيع عضو سياسي واجتماعي مطيع كامل الولاء دون نقد أو اعتراض أو حقوق؟ وهذا صحيح. فالنخبة السياسية والثقافية هي التي تشيع نظام العبودية المواطنية للسلطة لأنها تعيش على هذا النظام. وبالتالي فان العقد الوحيد ليس عقدا اجتماعيا وإنما عقد سياسي إيديولوجي معصوم أو عقد ديني مقدس تكون فيه الحقوق لطرف واحد غير قابل للنقاش.إن الاستبداد السياسي والديني والإيديولوجي ينفي العقد الاجتماعي فينفي الدولة ويصل إلى نتيجة واحدة هي نفي الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية للمواطن.
أليس هذا ما يحصل في العراق؟ واليس هذا ما تتجنب المرجعية الدينية الجواب عليه لأنه واضح أولا وباين للعيان ، ولأنه يشير إلى محنة علي وورطة عهده لبناء الدولة على عقد أخلاقي وحقوقي سواء كان عقدا دينيا أو عقدا سياسيا دينيا.إن تجنب السيد السيستاني الإجابة على رسالتي ليس ترفعا أو إهمالا كما اعتقد بعض القراء والسياسيين وبعض رجال الدين . انه محنة أخرى من محن الفكر الحقوقي الذي يتورط بدعم أو وضع قوى في مكان ليست قادرة فيه على تحقيق شروط المكان. ومكان الدولة هو ضرورة تعميمها على الجميع كمساواة في الحقوق والانتماء والشعور بالأمن.
كيف سنحل، في حالة غياب القانون قصة المقهى القائمة في مدينة الثورة أو مدينة الصدر ، سمها ما شئت، والتي يحتال فيه شيوخ وسادة مدعون يتعممون ويقبضون أموال الفصل العشائري على هواهم بعيدا عن الدولة لان الدولة غائبة وكأننا في قرية في المجتمعات البدائية.
وكيف سنحل مشكلة جواسيس المدارس، وهي مهنة جديدة يضطر فيها طالب أن يتحول إلى جاسوس للإدارة يتعقب أخبار بائعي المخدرات في الثانويات؟ هل نعتمد على توسيع شغل الجاسوسية في المدارس أو نعالج ظاهرة انتشار المخدرات في المدارس بطرق قانونية وثقافية واجتماعية مرتبطة بطبيعة الحال بحل مشاكل المجتمع كله فلا يمكن منع التدخين مثلا حفاظا على صحة مجموعة تعمل في معمل ينتج غازات سامة تتسرب إلى أنفاسهم. وهي مفارقة تشبه ما نشر عن اعتزام البرلمان مناقشة رفع الحصانة عن قارئ القرآن في البرلمان بتهمة التزوير.وهي مثل مفارقة تلك المقهى في مدينة الثورة ، أو الصدر، الذي يرتاده العاطلون عن العمل وبيدهم أكياسهم التي تحتوي على عدة العمل فهم (مختصون) بترتيبات الفصل العشائري بصورة ملفقة حيث يخلعون ملابس المقهى ويلبسون ملابس شيوخ دين وسادة دين وشيوخ عشائر مقابل ملايين الدنانير إذ يتفقون مع صاحب المشكلة على خمسة ملايين دينار مثلا ويتفقون، باسم الشيوخ والسادة، مع أهل المجني عليه ( وغالبا ما تكون خدعة رمي الجسد إمام عجلات السيارة أثناء توقفها والادعاء بالضرر)على تخفيض الدية إلى مليونين فيقبضون من صاحب المشكلة ثلاثة الملايين المتبقية. وهذه (المهنة) لم تدخل بعد في كتاب غينيس للمهن القياسية.
هل العراق مكان صالح للعيش؟
العراق مكان غير صالح. هذه الحقيقة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تدين الطبقة السياسية والثقافية التي لم تستطع سوى أن تزيد الأمور سوءا. في السبعينات لم يعد العراق مكانا صالحا للعيش سياسيا. الشيوعيون والقوميون والإسلاميون صاروا يتعرضون للاعتقالات والتعذيب والقتل والمطاردة فيما كان حزب البعث يضيق الحياة السياسية ويحولها إلى سجن سياسي كبير طال حتى البعثيين الذين يبدون وجهة نظرهم في التطورات. في الثمانينات لم يعد العراق مكانا صالحا للعيش بسبب الحرب وتحويل العراق إلى ميدان عسكري عبر التجنيد ألقسري والسوق العشوائي والضحايا المكررين والمستمرين في محرقة الحرب التي التهمت مئات الآلاف فضلا عن تحول الاقتصاد العراقي النشيط إلى اقتصاد حرب كارثية، في التسعينات تحول العراق إلى مكان غير صالح للعيش بسبب الحصار الاقتصادي الذي ضاعفه النظام المنهار بإجراءاته وسياسته لتحويل الحصار إلى مجاعة حقيقية وفرصة لاستعباد ملايين العراقيين وتحويلهم إلى فقراء حتى في اعتبارهم البشري. منذ 2003 لا يعرف العراقيون ما الذي يجري في بلادهم. فالأمور تتغير بسرعة مذهلة. من تحرير إلى احتلال. من تغيير إلى عودة إلى الوراء. من انفتاح إلى عوز. من فساد على مستوى محدود إلى فساد مفتوح على المدى الواسع.من تغيير نظام إلى تغيير وضع. من (استقرار) محكوم بقمع السلطة إلى فوضى وتفجيرات وإرهاب وسكون ليلي وجدران كونكريتية عالية وحواجز تفتيش وإخبار الفساد وانتشاره بشكل فظيع يهدد وجود نظام حكم أصلا بغض النظر عن وجود دولة حتى بات المواطن العراقي يسمع أرقاما فلكية عن مصادرات أموال الدولة بشكل نهب وعقود وهمية وغير وهمية ومشاريع تخصص لها مئات الملايين من الدولارات دون أن يلمس العراقي أثرا للمشاريع ، فحتى مشاريع المدن الثقافية ضاعت أموالها إداريا دون أن يشترك المثقفون في تحقيق هذه المشاريع التي تقام باسم ثقافة لا نعرف عنها شيئا.
عدت ذات مرة من العراق إلى لندن قبل أربع سنوات. كانت أول عودة لي للعراق بعد سبعة وعشرين عاما من المنفى. حين عدت إلى لندن كانت بي بي سي الناطقة بالانجليزية قد اتصلت لأكون ضيفا في احد أهم برامجها الذي يبدأ في الساعة السابعة صباحا، أي في وقت ذروة الاستماع الصباحي. سألني المذيع عن شعوري وأنا أعود إلى بلدي بعد نفي استمر سبعة وعشرين عاما. فقال ماذا وجدت؟ قلت له لم أجد شيئا فطفولتي لم تعد هناك وقد تحولت إلى اسمنت وحواجز، وحتى العصافير التي تركتها على الأشجار وسقوف النوافذ لم أرها. إن العراق يبدو وكأنه ليس بلدي بقدر ما يبدو على انه منفاي الثاني. .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
رايك محترم حينما يكون رايا محترما يضيف ولايسئ ..